الإسلام والرفق بالحيوان
فالحضارة الإسلامية كان لها السبق في الرفق بالحيوان، باعتبار ذلك تعبدًا لله وطاعة بما أمر واجتنابًا لما نهى، فالرحمة بالحيوان قد تدخل صاحبها الجنة, والقسوة عليه قد تدخله النار، والنبي محمد "صلى الله عليه وسلم" أولُ من دعا إلى الشفقة بالحيوان والرفق به ومساعدته في مطعمه ومشربه وفي صحته ومرضه، بل وأثناء ذبحه.
وهذا الدين الحنيف هو الذي ضرب للعالمين المثل الأعلى في الرحمة والرفق بالحيوان، فحرم القسوة عليه وإرهاقه بالأثقال والأعمال الشاقة، وحرَّم التلهي بقتل الحيوان، كالصيد للتسلية لا للمنفعة، ونهى عن كي الحيوانات بالنار في وجوهها للوسم، أو تحريش بعضها على بعض بقصد اللهو أو التربُّح المالي، وأنكر العبث بأعشاش الطيور وإحراق قرى النمل.
ولعلّ القرآن الكريم حين يصف أصنافًا من الحيوانات بالنعم والأنعام، فإنه يكرّم هذه المخلوقات، كما تسمّت سور عديدة بأسماء عدد من الحيوانات، كسورة البقرة والأنعام والنحل والنمل والفيل، وذكر القرآن الكريم عديدًا من الحيوانات والطيور وربطها بالإنسان عامة، وبكثير من الأنبياء والصالحين خاصة، واستعملها القرآن الكريم كمضرب للأمثال، مثل: ناقة صالح وحوت يونس وغنم داود وهدهد ونمل سليمان وطير إبراهيم، كما ضُرب بالحمار مع الرجل الصالح دليلًا على «البعث»، وضُرب المثل بالكلب في مواقف، وبالذباب في مواقف، وبالطير في مواقف أخرى.
وما قرره علماء الأمة وفقهاؤها من أحكام كفيلة برعاية الحيوان تبين وجوه الرحمة بذلك المخلوق، بدءًا من حرمة إجاعته وتعريضه للهزال والضعف، والتلهي به في الصيد، وطول المكوث على ظهره، وتحميله أكثر من طاقته، إلى رحمته قبل ذبحه إن كان مما يؤكل لحمه.
حقوق الحيوان
فالإسلام اهتم بالحيوانات ونظم لها حقوقًا قبل أن تقرها أو تعرفها الشعوب الأخرى، وقرر علماء المسلمين أن النفقة على الحيوان واجبة على مالكه، فإن امتنع أُجبر على بيعه، أو الإنفاق عليه، أو تركه إلى مكان يجد فيه رزقه ومأمنه، أو ذبحه إن كان مما يؤكل.
وقرر بعض الفقهاء أنه إذا لجأت هرة عمياء إلى بيت شخص وجبت نفقتها عليه، حيث لم تقدر على الانصراف، بل كانت الدولة الإسلامية ترى أن من واجبها متابعة رفق الناس بالحيوانات
فقد ورد عن فضائل عمر بن عبدالعزيز، "رضي الله عنه" ، أنه كتب إلى صاحب السكك (أي رئيس أو مدير إدارة المرور والسير) ألَّا يسمحوا لأحد بإلجام دابته بلجام ثقيل، ولا بنخسها بمقرعة في أسفلها حديدة، وكتب أيضا إلى عامله بمصر: «بلغني أن بمصر إبلًا نقّالات يُحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا، فلا أعرفن أنه يُحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل»، وأمر المحتسب (الشرطي) أن يمنع تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضربها أثناء السير، ولديه الصلاحية لتأديب ومعاقبة من يراه يفعل ذلك.
ونقل الدكتور مصطفى السباعي طرفًا مما قرّره الفقهاء المسلمون من أحكام الرحمة بالحيوان ما لا يخطر بالبال ومنها ما رتبه الفقهاء من نتائج حقوقية في حق من يستأجر حيوانًا للحمل أو الركوب فحمّله أكثر مما يستطيع، وألزموه بضمان ثمنه لمالكه إذا نفق، ولم يعاقبوا الحيوان بما جنى على غيره، وإنما عاقبوا صاحبه إذا فرّط في حفظه وربطه، ومنعوا أن يؤجّر حيوان لشخص عرف بقسوته على الحيوان، خشية أن يجور بقسوته وغلظته على هذا المخلوق.
عمائر الحيوانات
وإذا نظرنا إلى العمائر والمنشآت الخاصة برعاية الحيوان والرفق به في الحضارة الإسلامية نجد أن هذه الحضارة كان لها السبق في إنشاء عديد من العمائر التي تأوي الحيوانات، وتوفر لها مياه الشرب في السفر والحضر، وأروع الأمثلة على هذه العمائر أحواض سقي الدواب.
فإلى جانب الأسبلة التي توفر مياه الشرب للإنسان، اشتهرت الحضارة الإسلامية بهذه العمائر المائية التي أطلق عليها اسم «أحواض المياه»، والتي قصد بها توفير ماء الشرب للدواب والأنعام، وذلك تطبيقًا لآداب الإسلام التي تحض على الرحمة بالحيوان والرأفة به، ومعروف أن الرحلات والأسفار في العصور الوسطى وما قبلها كانت تعتمد على الدواب، وكان لابد من توافر مثل هذه المنشآت التي توفر ماء الشرب لها.
وهذه الأحواض خصصت لها أوقاف حبسها الخيرون طلبا لحسن الثواب، وكان يراعى فيها أن تكون قرب أطراف المدن وأبوابها، حيث تكثر حركة الخارجين والداخلين من المسافرين والتجار.
وقد عرفت أحواض سقي الدواب بطرزها المختلفة في مصر وبلاد الشام، وفي مشرق العالم الإسلامي ومغربه، وتحتفظ بعض المدن الأناضولية بنماذج من الأحواض السلجوقية التي مازالت قائمة حتى اليوم، وفي المغرب كانت الأحواض تلحق بالمساجد، وتكون منفصلة عنها، وكان يصل إليها الماء الذي يفور من أحواض الأسبلة أو السقايات عن طريق أقصاب من الفخار، حيث يصب في أحواض سقاية الدواب، التي تشكلت معماريًّا من دخلات عميقة صغيرة تقع في أسفل صدر حائط السقاية، وفي أسفل تلك الدخلات تقع أحواض عميقة في أرضية السقاية ليسهل الشرب منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق